لذة النص باعتبارها حلاً لإشكالية العزوف عن القراءة

 


يعتبر مشكل العزوف عن القراءة، من بين الاشكالات التي تعاني منها معظم الدول التي تاهت عن قاطرة التقدم إلى يوم الناس هذا، غير أن هذا الإشكال يُقَابلُ في الغالب بإلقاء اللوم على " الأنا الجمعية "، ومن ثمة ترديد عبارات من قبيل "أمة اقرأ لا تقرأ "، ولعل في هذه العبارة وما شاكلها ما يدعونا إلى وقفة تأمل قد تجرنا نحو متاهات أيديولوجية لا يسمح المقام بالانجرار خلفها، لذا لنا أن نطرح بدل ذلك أكثر من علامة استفهام، نتغيى من خلالها النبش في أغوار العوامل التي قد تقف وراء تفاقم هذا الإشكال العويص، من قبيل:

 لماذا يتفاقم مشكل العزوف عن القراءة، في الوقت الذي تعرف فيه مواقع التواصل الاجتماعي إقبالا هائلا من لدن مختلف شرائح المجتمعات؟

وأين يكمن سر هذا التناقض الصارخ الذي قد يثار بخصوص هذه المفارقة الغريبة؟

هل يمكن أن تكون مواقع التواصل الاجتماعي أحد أبرز العوامل التي اسهمت في انخفاض معدل القراءة في الدول غير المتقدمة على وجه الخصوص، ومختلف دول العالم بصفة عامة؟ أم أن هناك ما يفسر هذا العزوف؟.

هذه أسئلة وغيرها مما أثير ومما يثار بشكل مستمر، سواء سِرًّا أو علانية، وفي مقابلها هناك جملة من الإجابات الجاهزة التي تحاول تبرير تفشي ظاهرة العزوف عن القراءة، وفي مقدمتها رأي من يثيرون مساوئ مواقع التواصل الاجتماعي. فهل لنا أن نُسَلِّمَ بتلك الإجابات الجاهزة؟، والتي نراها، حسب وجهة نظرنا، مجرد تبريرات للتقاعس عن الإقرار بجوانب خفية قد تجعل مما يراه البعض سببا في ارتفاع معدل العزوف عن القراءة أمرًا موضوعيا يكشف المستور.

إجابةً عن سؤالنا الاستنكاري نقول: طبعا لا يمكننا الركون إلى ثقافة التسليم بالجاهز. ويكفينا شرف الفضول المعرفي المفضي إلى تجديد طرح السؤال.، حتى وإن لم نُوفَّقْ في بلوغ إجابة شافية.

إن السؤال المطروح حول أسباب العزوف عن القراءة، لا يعني انعدام فعل القراءة بشكل نهائي، وإنما يحيل إلى انخفاضه. لذا، لنا أن نلحظ نسب الكتب المقروءة؛ بغية تحديد نوع الكتب الأكثر إقبالا، خاصة في مجال الأدب؛ لأن من شأن هذا التحديد أن يقدم لنا بوادر الإجابة عن الإشكال المحوري.

من الملاحظ أن الكتب التي تعرف إقبالا من لدن القراء، بعيدا عن نظرة القارئ المتمرس والمتخصص في مجال أدبي معين، هي الأعمال السردية، تحديدا الرواية والقصة، فما هو تفسير هذا الاقبال؟، دون أن نبتعد عن الإشكال المطروح سلفًا؛ أي أسباب تفشي ظاهرة العزوف عن القراءة.

إن من بين الاجابات التي تحضرنا بخصوص الإشكال المتار، إمكانية ربط انخفاض نسبة فعل القراءة بتراجع تلك "القوة التأثيرية"، أو لنقل بصيغة أخرى إلى تقلص "القوة المغنطيسية" التي كانت تمارسها النصوص على القارئ؛ ولربما هي القوة التي تمتاز بها النصوص السردية؛ إذ تسهم في جذب القارئ واستدراجه من حيث لا يدري، ومن ثمة شحنه برغبة الفضول للاطلاع على ما يوجد بين دفتي صفحاتها، وأحيانا فتح شهيته للإقبال المتزايد على نصوص أخرى تنتمي إلى الجنس نفسه.

إنْ صح لنا أن نَقْبلَ هذه الإجابة، أو على الأقل بحيز منها، فسنقول: إن ما يوجد في الأعمال السردية أو ما تحققه لا يوجد في غيرها، ولعل ذلك الموجود هو ما يسهم في الاقبال عليها بلهفة دون غيرها، بل لربما قد يكون هو نفسه المشترك الذي تحققه مواقع التواصل الاجتماعي أيضا؛ ببساطة يمكن أن نتحدث عن " اللذة "؛ وهي شعور داخلي يُشكِّلُ علاقة حميمية، وتجاوبًا بين القارئ وبين نص معين أو كتاب معين استطاع أن يستحوذ باهتمام قارئه ليتماهى معه؛ ويمكن أن نسميه: " لذة النص "، تماما كما استحوذت اليوم مواقع التواصل الاجتماعي باهتمام الناس فصارت خير أنيس، بعدما كان الكتاب هو الجليس المفضل للإنسان، دون أن ينازعه أحد في موقعه الطبيعي.

 حتى وإن كنا ننكر ونستبعد، ولو بعواطفنا، إمكانية أن يَحُلَّ مكان الكتاب جليس آخر، يؤسفنا القول: إن هذا المعطى يفرض نفسه بقوة، وسيظل ما لم تستطع الكتب، في مختلف المجالات والتخصصات، الاستحواذ على اهتمام القراء، وخلق تلك اللذة المفقودة؛ فحينما يفتقد القارئ رغبة إتمام كتاب ما، مما يدفعه إلى هجره قراءةً، ومن ثمة نشوء انفصال بينهما، حينها يصل الأمر بالمتلقي إلى حد القطيعة والنفور من الكتاب، مما يخلق علاقة عدائية بينه وبين ذلك النص، وقد يتطور الأمر إلى النفور من كل أعمال مُؤلِف الكتاب المنبوذ ما لم تستحوذ هي الأخرى باهتمام القارئ، وقد يتعداها إلى النفور من كتب أخرى للسبب نفسه، وهكذا تتسع رقعة الانفصال الحاصل بين القراء والكتب.   

انطلاقا مما سقناه آنفا من معطيات لا تتعدى حدود الإشارة؛ كون الموضوع يحتاج إلى مزيد من التفصيل والتدقيق لا يتسع المقام للخوض فيهما. لنا أن نتساءل: ما هو مصدر تلك اللذة التي تحققها نصوص دون أخرى؟، هل يكمن السر في اللغة الموظفة؟ أم الأسلوب؟، أم أن هناك جوانب أخرى تقف وراء تلك القوة المغناطيسية؟.

Post a Comment

أحدث أقدم