في
الوقت الذي تتعالى فيه هتافات دعاة الثورة التكنولوجيا، تطرح أسئلة عديدة نفسها بإلحاح، من قبيل:
ما محل مخترع التكنولوجيا؛ أي الإنسان، من هذه الثورة التكنولوجية؟، وهل هذا الأخير يعي تمام
الوعي إلى أين يتجه؟، وحدود المخاطر المحدقة به؟
إن الانطلاق من هذه الصورة التي تدعونا إلى التأمل، يجعلنا نستشعر هول ما وصل إليه العالم اليوم؛ ففي ظل تكريس الجهود الرامية إلى بلوغ أقصى درجات التطور والتحضر التكنولوجي، يتم بالموازاة مع ذلك إهمال الثوابت التي لا اعتبار بدونها للإنسان، حتى اننا اليوم أصبحنا عبيدًا لآلات دون أن نعي خطورة ذلك ما قد تِؤول إليه الأوضاع مستقبلا؛ إذ على الرغم من أن هذه الآلات لا تعدو أن تكون مجرد مُخترعات من صنع الإنسان، هذا الأخير الذي طور الذكاء الطبيعي؛ القائم على الذاكرة الإنسانية والعقل البشري إلى ذكاء صناعي يوفر الجهد ويخزن ويحلل بكيفية سريعة يعجز عنها الذكاء الطبيعي، وهنا تكمن المفارقة؛ ففي ظل هذا المد المتزايد للتكنولوجيا، تتراجع سلطة الإنسان واحتوائه لمَصنُوعهِ شيئا فشيئا، ويتسع البون بين الآلة ومخترعها.
لقد كانت المصانع قديما تحتاج إلى عدد هائل من الموارد البشرية التي من شأنها أن تقوم بأعمال شاقة؛ بغية إنتاج لربما قد لا يحقق النتيجة المرجوة، بينما أصبحت اليوم آلة واحدة فقط كفيلة بأن تَشْغَلَ مهام المئات من العمال، بل وتستطيع أيضا تحقيق إنتاج مضاعف.
هكذا كان من البَدَهِيِّ أن يتجه أرباب المصانع
والمعامل إلى تعويض عامل إنسان بعامل آلي، وفي هذا ما فيه من الاعتراف بتفوق الآلة
على صانعها، والشأن نفسه حتى في مختلف المجالات؛ فالمعرفة أيضا تم تحويلها بواسطة
الرَقْمَنَةِ لتتجاوز وضعها الطبيعي؛ حيث صرنا من خلال هذا المعطى نتحدث عن "مجتمع المعرفة" كما جاء مع الأستاذ محمد مصطفى القباج، هذا المجتمع الذي لا مجال فيه للتراخي؛ لأن العالم
الحالي يناشد السرعة في كل شيء، حتى في أخذ المعلومات.
لقد اقتضت الحاجة الملحة لطلب المعلومات في وقت
قياسي، توسيع ذاكرة الآلات الإلكترونية من قبيل الهاتف والحاسوب...وغيرها، حتى تتمكن هذه الآلات من تخزين وتحليل أكبر عدد من المعلومات دون أدنى صعوبة،
وفي المقابل أصبح الدماغ البشري يضعف تدريجيا؛ لأنه أصبح في غنى عن الاشتغال
بكيفية مستمرة كما كان الأمر قبل ظهور التكنولوجيا، وإن بدا أن هذا الأمر يصدق بشكل
أكبر على المجتمعات التي لا تقرأ ولا تنتج بكيفية مستمرة، فإن التأثير الذي يمس
كينونة الإنسان وجوهره يهم الإنسانية جمعاء، ولا قِبَلَ لأحد بأن يدعي عدم تهديد
هذا الخطر له؛ أي ذلك الخطر الذي استشعره البعض، خصوصا أولئك الذين لم تغرهم
الطفرة التكنولوجية التي تكتسح العالم الآن، أكثر مما نبهتهم إلى محاولة البحث عن
بعض البدائل التي تضمن للإنسان مكانته وخصوصياته، فكما يقول الأستاذ محمد مصطفى
القباج " صحيح أن لهذه
التكنولوجيا مساحة واسعة من الفعالية والتأثير، تبدو في ظاهرها أنها حَرَّرت
الإنسان وقلصت من دوائر الرقابة، ولكن التَّشريط الآلي الإلكتروني قد يؤدي في
نهاية المطاف إلى اغتراب الإنسان وسلب إرادته "[1].
وفي
الإطار نفسه يصرح رجل الأعمال الصيني
"جاك ما" في إحدى لقاءته الصحفية إلى كلام قريب من قول مصطفى القباج، فجاك ما يرى أن التعليم اليوم صار تحديا، ويقول:
إن لم تغير طريقة التدريس، فستكون الصين في ورطة بعد 30 سنة؛ لأن طريقة التدريس حاليا بالصين، والأشياء التي
تدرس للأطفال هناك، هي أشياء بالية منذ 200 سنة مضت كما يقول؛ كونها مبنية على المعرفة لا غير.
وهكذا لن يتعلم الأطفال كيف ينافسون الآلة، التي تتفوق علينا بالذكاء، وقد يستغرب
المرء حينما يسمع هذا الكلام، الذي قد يبدو في الوهلة الأولى حاملاً لتناقض صارخ؛
إذ كيف لهذا الرجل أن يقول إن ما يدرس بالمدارس الصينية لا فائدة منه، والعالم
يشهد على التقدم الذي يحققه هذا البلد!، فهل فعلا ما وصلت إليه الصين اليوم من تقدم
يبين تردي محتوى ما يدرس بالمدارس الصينية؟، أم أن جاك ما يحيل إلى أمور تتجاوز
المستوى الاقتصادي وما شابهه؟.
سؤال سرعان ما ستزول ضبابيته، وكذا علامات الاستغراب والتعجب التي ولدها بمجرد إتمام كلام جاك ما، الذي يؤكد على
أن ما ينبغي تعليمه للأطفال يجب أن يكون فريدا؛ بحيث لا تستطيع الآلة اللحاق
بالبشر، هذا إن لم نقل أنها لحقت به فعلا، بل وتفوقت عليه. لذا أكد "جاك ما" على ضرورة تعليم وتعلم الأطفال ما يلي: القيم، الإيمان بالنفس، القدرة على التفكير
في المستقبل، روح الفريق، الاهتمام بالآخر، الرياضة، الرسم، الفن...؛ أي الجزء
المعنوي التي لا تستطيع الآلآت أن تتفوق فيه على الإنسان؛ كونها تقتضي استحضار الجانب الحسي والوحي الذي لا تمتلكه الآلات.
إن إنعام النظر في الرأيين السابقين يجعلنا ندرك بشكل جلي فداحة الأخطار التي تحوم بنا؛ فحينما ستغزو الروبوتات العالم بحلول عام 2030، آنذاك قد يجد الإنسان نفسه في الهامش، لأن الروبوتات
ستلغي كمًّا هائلا من الوظائف التي ما زال يشغلها الإنسان إلى حدود الساعة، وقد تقدر
هذه الوظائف بحوالي 800 مليون
وظيفة في العالم أو ما يزيد عن ذلك.
أمام
هذا الواقع الذي يخترق حدود الممكن والمحال لنا أن نتساءل مرة أخرى: ما فائدة الإنسان
بعد أن تفرض الآلة سلطتها الكاملة؛ ما دامت هذه الآلات ستقوم بكل ما
يستطيع الإنسان القيام به، وبكيفية أفضل؟، وهل نعي ما معنى أن تتغلب وتهيمن الآلة على مخترعها؟، ومتى سيتم تحيين تلك البدائل التي تضمن للإنسان مكانته،
وتحفظ له وجوده؟.
[1] مقاربات في الحوار والمواطنة ومجتمع المعرفة، محمد مصطفى القباج، منشورات دار ما بعد الحداثة، ط1/ 2006، ص141.
إرسال تعليق